Sunday, May 4, 2014

تأملات في ألبوم الذكريات



طالعت ما ينشره بعض الأصدقاء و ما أنشره أنا شخصياً من صورنا القديمة (لم ترق لمرتبة الوصف بالتاريخية بعد...!) على مواقع التواصل الاجتماعي فوجدت أنها تثير ما يدهش و أحياناً ما يضحك من الأفكار و المشاعر ذلك أنها تهيج في العقل ذكريات و مقارنات و ترسم أمامه بسرعة البرق صوراً أخرى و بل تنتج أفلاماً أعظم من إنتاج هوليود و تؤلف قصصاً تحصد نوبل في الأدب حتى نهاية التاريخ...!
ربما حين تطالع صورك و صور أصدقائك القديمة تضحك من هذا الكائن النحيل الجسد إذا ما قارنته بالأوزان التي أمامك اليوم...أو تتساءل عن هذا الشاب الأخضر عوده ذو الشعر الكثيف الذي يشبه آخر أصلع تراه اليوم حين تطالع المرآة أمامك أو تقابله أحياناً هنا أو هناك...!
و ربما قفزت لذاكرتك نسخة ثلاثية الأبعاد للمكان الذي التقطت به الصورة التي تقع عليها عينك فرأيت الأماكن كما كانت منذ عشرين عام و بعد شهيق عميق تخرج كلمة (إيييييه) من فمك مع زفير طويل...!
و ربما تتجول بالذاكرة السينمائية بين شخوص هذا الماضي و أماكنه و أحداثه و مواقفه و تقول لنفسك يا الله كيف كنت أتصل بفلان و لم يكن عندي تليفون؟! و لا حتى الأرضي...! بل إن ظهور جهاز الاستدعاء (البيجر) الذي كان الواحد يحمله حول وسطه كنا نعده لوناً من الترف و الافتخار المبالغ فيه... ! ثم كيف كنت أذهب للجامعة و لم يكن عندي سيارة ؟ و حتى صديقي فلان كانت سيارة والده التي يستخدمها توصلنا في الضحك لمكان أبعد مما توصلنا إليه في الشارع ! و ما هذا الزي الفكاهي الذي كنت أرتديه و كأني في حفل تنكرية أو ربما في حفلة لتوزيع الدعم على الفقراء و أبناء السبيل ؟ ثم أي نظارة هذه العجيبة التي كنت أضعها فوق أنفي ؟ حلم الشباب في الوجاهة وقتها كان نظارة (راي بان) سوداء يضعها فوق أنفه و يضع غطائها (الجراب) في مكان بارز حول وسطه و (يتقمع)...! ثم كم كان من المال في جيبي وقتها؟ ما أكثر الأطعمة إغراءاً لي وقتها..؟ بكم كانت..؟ أي رحلة كنت أحلم بالاستمتاع بها نهاية العام أو في إجازة نصف العام؟ هل كنت أعرف شيء عن الكمبيوتر سوى أنه اختراع عجيب يريدون دس أنفه في كل شيء في حياتنا..؟ هل كنت أسمع عن الإنترنت سمع خير أو حتى سمع شر..؟ كيف كانت قاعة المحاضرات في الجامعة؟ هل كنت أرى ما يكتبه المحاضر على السبورة بوضوح؟ أو حتى بغير وضوح؟!! هل كان هناك عروض للشرائح أو الأفلام العلمية بالكمبيوتر ؟ كيف كانت الكراسي التي أجلس عليها في (السكشن) ؟ و...و...و....
الحمد لله إن كل أمنياتك و أحلامك القديمة هي الآن عند أطراف أصابعك إن لم تكن تحولت بالفعل لروتين ممل..!!!
لكن الملاحظ أننا وقت أن كنا لا نمتلك شيء من أحلامنا كنا للرضا أقرب و بالحياة أسعد...!
كانت الابتسامة (بل الضحكة و القهقهة) لا تغادر الوجوه كل الوجوه و البريق الساكن في العيون يأبى إلا أن يغادر مسكنه باستمرار و في كل اتجاه... كانت الطاقة و الحيوية لا تترك منا ساكنا إلا و حركته أو غافلاً إلا و نبهته...كان الكلام يتدفق من القلب قبل اللسان بحماس و بصدق و بصوت عالي لا يعرف الخوف و بالفاظ حادة أحياناً و عجولة أحياناً كأنها تريد أن تقتطع المعاني من الصخر أو تحيط بها قبل البخر... كانت المشاعر رقيقة ناعسة تتحسس طريقها نحو النور في حياء و تتلمس الظهور و تتصنع الغياب تتردد بين الخوف و الإقدام بين الخجل و الجرأة بين البراءة و الشقاوة و تتعثر في مشيتها كطفل يتعلم المشي أو لا يعلم نهاية الطريق الذي يمشيه ...! كان كل شيء مثير و ملفت و جديد و حي و حر و نابض بالحياة و ناطق بالتفاعل و الاستجابة...!
و بمنتهى السذاجة البشرية لعبنا لعبة الحياة القدرية و نحن نتصور أننا سنخرج منها بأفضل مما خرج به الأولون و سنربح منها ما لم يعرفوا أن يربحوه ...سنربح الكل دفعة واحدة...مكاسب بلا خسائر...أرباح بلا حصر و بلا مقابل...أمنيات ستتحقق و أحلام ستخر من السماء إلى الأرض بين أيدينا قائلة لنا ما قاله عفركوش لإسماعيل يس: (شبيك لبيك)...!
اللعبة كان لها شروط و قواعد و ينظمها قانون و أحكام لم نناقشها ربما غفلة أوعجلة أو تقليداً أعمى أو حتى عجزاً و استسلاماً...منها مثلاً أن هناك بعض المؤشرات أو (العدادات) الهامة التي يجب عليك الانتباه لها و أن التعليمات تقول أنه يستحيل أن ترفع واحداً منها دون أن تخفض الآخر...شيء مقابل شيء...قانون اللعبة كده...النظام كده...!
شيء أقرب لعدادات تابلوه السيارة و مؤشراته العجيبة...محال مثلاً أن تبدأ رحلتك الطويلة و تنهيها بنفس رصيدك من البنزين و نفس عدد الكيلومترات و...إلخ طبيعي أن كل شيء سيتغير مقابل أن تتم الرحلة و تصل لغايتك...! خلاص فهمت...موافق على النظام...؟! توكل على الله إذن...!
و توكلنا و لعبنا في (عداد عمرنا) بينما عيوننا على (عداد أموالنا)...و ارتفع عداد المال فعلاً و فرحنا به و قطفنا ثماره و أدركنا لذتها...لكننا لم نلبث أن اكتشفنا أن المسألة أو اللعبة بكاملها فيها ثمة خدعة...بل أكثر من خدعة ...!
أولها أن عداد المال يمكنه الارتفاع و الانخفاض بينما عداد العمر ينخفض فقط...!
و أن عداد المال لسنا وحدنا الذين نتحكم فيه...!
ثم إن عداد العمر لا علاقة بينه و بين عداد المال من أساسه...!
و للأسف كان هناك عداد لم نكن نعرف بوجوده أصلاً هو أهم العدادات جميعاً...اسمه (عداد الرضا) ...! و يا ليتنا عرفنا بوجوده أول الرحلة و عرفنا ما الذي يرفعه و يخفضه إذن لهون علينا ما أثقل كاهلنا بلا داع..!
لاحظنا و نحن نلعب و نلهو في رحلة الحياة ملاحظة عجيبة مدهشة هي أن عداد الرضا ينخفض كلما ارتفع عداد المال...خلافاً لما كنا نتوهمه جميعاً خاصة في أول الرحلة...! كلما امتلكت أكثر كلما سخطت أكثر...!
سخطت على ما تمتلكه الآن لأنه أقل مما يمتلكه الآخر و على ما كنت تمتلكه من قبل إذ تدير له ظهرك و تعتبره عبئا بلا فائدة و كماً بلا منفعة و ربما سخطت على ما سوف تمتلكه مستقبلاً لأنه لم يأت إليك في الوقت المناسب (الذي هو الآن من وجهة نظرك دائماً)..!
كلما ارتفع عداد مالك الذي امتلكت كلما فر رصيد الرضا من بين يديك و انخفض عداده فأصبحت تتلمس الرضا بل تتسوله عند الآخرين لدرجة أنك ابتكرت لذلك أساليب غريبة...!
و لأنك مع مرور الوقت لم تعد متيقناً من الفوز في اللعبة كما كنت أول الأمر بل لعلك تيقنت أنها لا فوز فيها لأحد أبداً فقد تحولت عينك عن لعبتك و عداداتك و تصورت أن إنقاذ ماء وجهك أو تحقيق الفوز قد يكون باللعب في عدادات غيرك...!
أصبحت تتمنى أن تسرق الرضا ممن يستمتعون به...تخدعهم كما خدعتك لعبة الدنيا...تستظهر أمامهم المال و تباهي و تفاخر به ليظنوا أنك في قمة الرضا لا في قمة المال...! فينجذبوا إليك و يتمنوا رضاك الذي لا وجود له أصلاً ...أو لعلهم يسخطون عليك حسداً لك و غيرة منك فيقل رضاهم هم و تشعر أنت أن مصابك أخف لأن المصيبة إذا عمت هانت...!
أصبحت ابتسامتك عيباً تستره و ضحكتك سراً استراتيجياً لا يطلع عليه إلا المستويات العليا و بريق عينيك أثراً لا يدل على شيء و الريموت يسبب لحيويتك الموت فكل شيء تنفذه الآلة و تسيطر عليه عن بعد و زاد وزنك لدرجة جعلتك تفكر في استئصال معدتك أو ممارسة الرياضة بدون مجهود ! أصبح كلامك أقرب للأداء التمثيلي تقرأه من سيناريو كتبه عقل غيرك و لم يعد يعبر عنك أو يحمل أفكارك...و أصبحت مشاعرك حبيسة الحسابات و سجينة الأرقام و المعادلات حتى تيبست أو ماتت أو كادت...!
لهذا الاسترسال حكمة ذلك أنني لم أجد في أي ديانة أو فلسفة معتبرة دعوة للتملك و الكنز للمال و الأشياء بل وجدت فيها كلها عكس ذلك تماماً...وجدت دعوات للزهد و مسالك تدل الصالحين على حل اللغز و سر الصنعة و فك الطلسم...كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في تثبيت أركان الإنسان...هما (الرضا بالقليل)...!
أن تتعلم كيف ترضى دون أن تملك أمر هام لك ينفعك و يحميك...يعطيك و لا يأخذ منك...ثم أن تتعلم كيف تستمتع بكل جزئية في القليل الذي ملكته بأن تتعلم و تفهم و تستثمر قيمة أقل نعمة لديك أمر سيجعلها تتعاظم أمامك لدرجة ستغنيك عن امتلاك أكبر نعمة عند غيرك...أن تتعلم فوق ذلك كيف ترضى بالنعمة التي يمتلكها غيرك بأن تقدر جوانب الفائدة منها التي من الممكن أن تعم عليك بنفس القدر الذي تعم عليه من دون أن تتملكها كمثل أن تتشمم رائحة العطر و تطالع جمال الزهر و تقدر روعة العمارة و تدرك متانة الصنعة أمر يعظم من ثرائك و لا يكلفك شيء و يرفع رضاك...!
ثم تخيل إنك امتلكت الكثير من الأشياء بميراث المال أو توفيق في صفقة أو غير ذلك و بعدها فقدته بأسباب أخرى من حوادث الزمن التي كما قد تعطيك ممكن أيضاً أن تأخذ منك فكيف ستتحمل فقد الكثير إن لم تعرف كيف ترضى بالقليل...؟!
ثم ألا ترى أنك إن ملكت الكثير و حبسته فربما تكون قد جرت على فرصة غيرك في أن يجد حتى القليل ليملكه...فكيف ستحيا بجواره و ماذا تنتظر من ضيقه أو من سخطه...؟!
إن المستفيد الوحيد من إيقاظ حب الامتلاك هو التاجر الذي يبيع الأشياء القابلة للتملك...! و لو أننا نمتلك ما نحتاج فعلاً و نحسن استخدامه لبارت تجارة الكثيرين...!
و لو أننا أتقنا اتخاذ القرار بالرضا و سلكنا دروب القانعين و تعلمنا فضل كلمة (الحمد لله) لكانت رحلة الحياة أسهل و لاستغنينا عن العبث في مؤشراتها و عداداتها و لكان رجاءنا فيما نجده آخر الرحلة من لقاء الأحبة شاغلاً ممتعاً لنا عن النظر لمكونات الدابة التي نركبها من الأصل...و لكانت المتعة التي نجدها في ألبوم الذكريات لا تفارقنا حتى النهاية.

0 comments: