رمضان مع يوسف 8
يوسف و إدارة
الأزمة...
رأينا في قصة يوسف
نموذجاً لما اصطلح عليه في زماننا بالأزمات أو المشكلات الكبرى التي تواجه دولة
كبرى بحجم مصر في زمان يوسف...أزمة تنذر بكارثة بل بكوارث فظيعة إن لم يتم
مجابهتها بشكل صحيح...
رأينا بلداً كبيراً و
ما حوله من بلدان كل اعتماده على نهر واحد هو النيل...
يعتمد عليه في الشرب و
في الزراعة التي توفر القوت...
يعني باختصار لا مصر
بدون نهر النيل...
المصريون الفراعنة
أدركوا هذه الحقيقة و لأنهم عجزوا عن فهم أعمق للنيل ناهيك عن أي محاولة لتطويعه
أو ترويضه بحيث لا يأتي أحياناً طاغياً متوحشاً فائضاً بالغرق و أحياناً أخرى
هزيلاً شحيحاً قاتلاً بالجفاف...المصريون قدروا النيل و أضافوا لمقداره عجزهم
أمامه فاتخذوه واحداً من آلهتهم الكثيرة...!
و لا زال النيل ذو قدر
عظيم على مصر و المصريين إلى اليوم و إن أدركوا أنه ليس إلهاً لكنه يجري بإذن
الأله الواحد سبحانه...
و ها نحن حتى اليوم
نرى تخوف المصريين من أي فعل بشري يؤثر أو يحاول أن يؤثر على النيل كمثل أزمة سد
النهضة في أثيوبيا...
في قصة يوسف رأينا
أزمة تقلب النيل ما بين فيضان لمدة سبع سنين ثم قحط لمدة سبع أخريات و عجز عن أي
تدبير للتعامل معها...ورأينا التهديد بالجوع و العطش أو المجاعة كمثل ما يحدث في
بلاد أفريقية قريبة من مصر هذه الأيام (كالصومال مثلاً) ...أزمة من النوع الحقيقي
و تنذر بكارثة بشرية مروعة...!
أما إدارة الأزمة في
قصة يوسف فهي نموذج لما نراه اليوم من (علم إدارة الأزمة)... نموذج تم تصريفه
إلهياً و بوحي لنبي كريم من أنبياء الله هو يوسف (ص)...
أول و أهم مراحل إدارة
الأزمة هو التنبؤ بها أو توقعها أو استشعارها (قبل) أن تحدث....
رأينا في قصة يوسف أن
مصر كانت تحت حكم أجنبي محتل (الهكسوس) و أن هذه الدولة المحتلة كانت متخلفة
حضارياً و أخلاقياً و علمياً و مع هذا ربما كانت الأفضل فيما حولها و بالتالي كان
محالاً على هكذا دولة أن يكون لها مؤسسات تعمل على التنبؤ بالكوارث أو الإعداد
للمستقبل عموماً...
كان حتماً أن تكون
مرحلة توقع الأزمة أو التنبؤ بها إذن مرحلة فوق مستوى هذه الدولة الكبرى يعني فوق مستوى البشرية المعاصرة يعني
وحياً إلهياً...!
جاء هذا الوحي في صورة
مركبة نوعاً ما لخدمة أكثر من هدف في وقت واحد...
جاء في صورة شفرة
كودية تمثلت في رؤيا منامية صادقة لملك مصر وقتها و في صورة فك لهذه الشفرة على يد
شخص واحد فقط يمكنه ذلك هو يوسف (ص)...
و بالتالي تخدم نفس
هذه الشفرة غرض إنقاذ مصر من الأزمة و في نفس الوقت تخدم غرض إنقاذ يوسف من التهم
الباطلة و من السجن ظلماً...
إذن في الوقت المناسب
تم التنبؤ الصحيح بالأزمة...
ثاني مراحل إدارة
الأزمة هي التخطيط لمواجهتها أو ما يعرف ب (خطة العمل) action plan...
و مرة أخرى كان من
المستحيل على شعب مستعمر غير متحضر أن يضع خطة عمل لمواجهة هكذا أزمة خطيرة بأسلوب
علمي حتى لو تنبأ بها قبل حدوثها...!
فكان حتماً أن تكون
خطة العمل أيضاً وحياً إلهياً و كلاماً نبوياً...
أول عناصر خطة العمل
كانت (العمل) ليس العمل بالصورة المعتادة بل العمل الدؤوب الجاد الكثيف وعدم
الغرور بسنوات سبع كاملة قادمة من الرخاء ...
ونوع العمل المناسب للأزمة
هنا هو الزراعة بالطبع...استغلال كل نقطة مياه و كل بقعة أرض لزيادة الإنتاج
الزراعي...
بالطبع لم يكن ممكناً
توجيه طاقة دولة متخلفة لبناء سدود على النيل مثلاً ولا كان هذا عملاً نافعاً لو
تم لأنه لا الدولة تستطيع تنفيذه و لا الوقت سيسمح بالاستفادة منه في الوقت
المناسب إن تم...
الهدف من العمل هو
زيادة الإنتاج الزراعي من أهم السلع أو ما يسمى في زماننا (السلع الاسترتيجية)...و
على رأسها بالطبع (القمح)...و ليس طبعاً زيادة الإنتاج من المحاصيل الترفيهية أو
عديمة الجدوى الاستراتيجية كما نراه في بعض البلاد في زماننا المعاصر...
إذن نحن نتكلم بالأساس
عن عمل دؤوب لإنتاج محصول وفير من القمح...
و ناتج العمل الزراعي المتوفع
هو حصاد محصول وفيراً جداً من سنابل القمح في سنوات الرخاء...محصول يغطي الاستهلاك
و يحقق فائض يمكن الانتفاع به لاحقاً في سنوات الجفاف...
وهنا يأتي السؤال: كيف
سيتم تخزين فائض القمح؟
و سؤال آخر: هل وجود
فائض حالياً و أزمة مرتقبة مستقبلاً معناه زيادة الاستهلاك أم الاستمرار بنفس
معدلات الاستهلاك أو خفض معدلات الاستهلاك ؟
خطة العمل الربانية
أجابت على السؤالين خير جواب...
تخزين سنابل القمح كما
تم حصادها دون أي تعامل معها في حصون مخصصة لذلك...و هي الآن تعرف (بصوامع الغلال)
التي يدخر فيها (المخزون الاستراتيجي) ...
مع خفض الاستهلاك و
الأكل قليلاً و تشجيع الادخار استعداداً للمستقبل...على أن يتم هذا بنظام محكم
لتوزيع حصص محددة تضمن وصول السلعة لمن يحتاجها بالكمية المناسبة و في الوقت
المناسب مع الحفاظ على فرص توفير الاستهلاك (وزارة تموين)...
العنصر الأخير من خطة
العمل هو (الأمل)...
إضفاء الشعور بأن
الأزمة حتماً ستنتهي و سيتجدد الرخاء من بعدها ...لأن سنة الحياة ألا يدوم فيها
شيء...
و هنا أضاف يوسف
للتأويل جزءاً لا وجود له في شفرة الرؤيا المنامية الأصلية (ثم يأتي من بعد ذلك
عام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون)...و هي إضافة حيوية للتحفيز على العمل بالأمل...
المرحلة الثالثة من
إدارة الأزمة هي مرحلة اختيار الرجل المناسب للمكان المناسب لتنفيذ خطة العمل...ذلك
أن خطة بلا تنفيذ لا تساوي شيئاً و أن تكليف غير كفء بمهمة معناه عدم إنجازها و
كلها أمور لا تناسب أمة تستعد لمواجهة أزمة...
بالطبع أصر الملك في
القصة على أن يكون يوسف حاضراً بقوة في التنفيذ و كلفه باختيار أنسب موقع لمباشرة
خطة العمل (إنك اليوم مكين أمين) فاختار يوسف الموقع الأكبر مسئولية و الأشد
حساسية موقع (وزير الخزانة) وهو الذي سيكون مسئولاً بشكل مباشر و صريح عن تنفيذ
خطة العمل (اجعلني على خزائن الأرض) ...و هو اختيار النبوة بكل تأكيد فلن تجد أشجع
من نبي في زمانه...و منهم يوسف...
و تستطيع بعدها أن
تتوقع أن يوسف أحسن اختيار رجاله و من هم دونه في مواقع المسئولية....
المرحلة الرابعة من إدارة الأزمة هي التنفيذ...
و نحن رأينا أن يوسف
قد مكن الله له في أرض مصر تمكيناً بسبب مهام وظيفته الجديدة يؤهله لأن يذهب بنفسه
لأي بقعة فيها متى شاء...و هذا هام لأنه يرينا أهمية أن يكون المسئول التنفيذي (ميدانياً)
يباشر العمل بنفسه و في كل مكان يتصل به و لا يكتفي بتفويض المهام لمعاونيه...
و أظننا كمصريين قاسينا
طويلاً في زماننا المعاصر من مسئوليين (مكتبيين) يباشرون عملهم على الورق و تحت
تأثير المكيفات فكانت النتيجة تراخي أعوانهم و تراجع أدائهم حتى ترهلت دولة بأسرها
و جرى لها ما جرى...!
و الشاهد من القصة أن
يوسف كان ميدانياً و يقف على يد مساعديه في كل عمل و هذا هو ما أتاح فرصة أن يرى
إخوته حين أتوا مصر طلباً للميرة كما بالقصة و لم يجعل وجوده في مكان غير قصره
أمراً غير معتاد...
المرحلة الأخيرة من
إدارة الأزمة هي المتابعة و التقييم للنتائج و أظنك من السهل أن تتوقع نجاح يوسف
فيها أيضاً بدليل أن يوسف و إخوته و أهله جميعاً و ذريتهم (بني إسرائيل) عاشوا
بعدها سنين طويلة في مصر وصلت لزمان موسى (ص) ...
إذن نحن أمام نموذج
رباني نبوي لإدارة الأزمة...قام بتنفيذه نبي ...و انتهى بنهاية سعيدة...أحسب أننا
جميعاً يجب أن نتوقف عنده ونستفيد منه...
و لا زالت خواطرما حول
قصة يوسف مستمرة...
تابعونا...
0 comments:
Post a Comment